هو أبو عبد الله محمد بن محمد الإدريسي، واحد من أوائل من أسسوا لعلم الخرائط بمفهومه الحديث، بل إن خريطته التي قضى من أجل إنجازها قرابة خمسة عشر سنة، تعتبر أهم خريطة عالمية يتم إنجازها في القرون الوسطى ، وُلد بسبتة المغربية سنة 493 هجرية/ 1099 ميلادية، من أسرة يعود نسبها إلى إدريس بن عبد الله مؤسس الدولة الإدريسية، ويعود كذلك لعلي بن حمود منشئ الدولة الحمودية بالأندلس في عهد ملوك الطوائف، أنهى دراسته بقرطبة، واستطاع منذ حداثة سنه أن يحصل على ثقافة أدبية متينة، وأن يتشبع بثقافة رياضية كاملة في الحساب و الهندسة والجغرافية، كما زاول مهنة الطب هناك وتعرّف على أسرار النبات، زيادة على نبوغه في الشعر.
حينما وصل سنه الـ16، بدأ الإدريسي التجوال في العالم، فزار كل بلدان المغرب الكبير، فمصر والشام والكثير من البلدان العربية، ثم بلاد الأندلس، ففرنسا، ثم انجلترا، قبل أن يرحل لصقلية ويعيش فيها ابتداء من سنة 533 هجرية ، بدعوة من ملكها رُوجار، الذي استدعاه لمساعدته في أبحاثه الجغرافية، بعد أن ذاع صيت الإدريسي وعُرف كواحد من أكبر جغرافيي العالم في ذلك الوقت، فقد كان روجار يميل إلى الاستفادة من المسلمين الذين كانوا حاملي مشعل العلم والحضارة في البحر الأبيض المتوسط، واستفاد منهم الكثير من الملوك الأوروبيين في بناء نهضة أوربا العلمية.
استطاع الإدريسي، أن يضع أول خريطة عالمية صحيحة مبنية على الأصول العلمية والحقائق الفنية الثابتة لذلك العهد، وقد كان السبب في هذه الخريطة يعود لرغبة روجار في تأليف ما يصف مملكته الواسعة، ليلتقي الإدريسي بسفراء صقلية، وبدأ بالتأكد من أماكن الأقطار سواء من معلوماته التي اكتنزها من رحلاته أو من معلومات السفراء، فاستمرت عملية التدقيق خمسة عشر سنة، حضّر من خلالها لوح الترسيم، ووضع عليه مواقع البلدان بواسطة بركار من حديد، وعندما انتهى، وضع خريطة جامعة على صفيحة من ورق، قَدّر وزنها أحد المستشرقين الإيطاليين وهو تشيا باريلي، ب150 كيلوغراما، وقدّر طولها المؤرخ الألماني بيلر بثلاثة أمتار ونصف طولا، ومتر ونصف عرضا، إلا أن هذه التحفة النادرة لم تُعمر طويلا، بعدما سطا عليها ثوار من المدينة ليتلفوها بعدما لم يعوا قيمتها.
الخريطة الإدريسية لا تشبه كثيرا الخريطة الحالية التي نعرفها للعالم، لكنها كانت متقدمة بشكل كبير وأعطت الأسس المتينة للتعرف على العالم، فقد رأى الإدريسي أن الأرض مُكوّرة، وأن نصفها الجنوبي خالٍ من البشر، بينما نصفها الشمالي هو القسم المعمور، واعتبر أن هذا القسم يتكون من ثلاث قارات هي آسيا وإفريقيا وأوروبا، إلا أن أكبر ما حققه في هذه الخريطة، هو إثباته لخطوط العرض من أجل تحديد مواقع البلدان، حيث أثبت خطوط العرض من الدرجة 28 إلى الدرجة 63، هكذا وفي بعض المناطق التي كانت لديه الإمكانيات لإجراء المقاييس الصحيحة عليها، كانت أرقامه متطابقة، وفي بلدان أخرى استحال عليه التدقيق بشأنها، كانت الاختلافات ضئيلة جدا.
تعليقات
إرسال تعليق